تبدو الحياة مثل لعبة تمارسها فاتنة لعوب .. تتفنن في إغوائنا، تتحايل بمكر، تبهرنا بدهاء، تغوينا وتنجح في التسلل دوما لخبايا نفوسنا .. تدرك مواطن ضعفنا، تحفظ عن ظهر قلب أحلامنا، أمانينا، زلاتنا، سقطاتنا .. وتلعب على كل أوتار أرواحنا، تزين لنا طريق الأمل، ترسم ورودا مبهجة تتسلل لنفوسنا فتخفق بقوة وتظن أنها قادرة على صنع المستحيل .. تدك أقدامنا بجسارة المغوار، تظن أنها مقدمة على فتح مبين، تتقدم بصدر شجاع وتمتد أيادى صلبة موقنة بقدرتها على تحطيم الأبواب الموصدة وتحقيق كل الأحلام العصية على التحقق.
ننجح في اجتياز عقبة، فتشتد عزيمتنا وإصرارنا وإقدامنا على اجتياز كل العقبات .. يزداد صخبنا وتشتعل فينا متعة النجاح، تبدو كل الطرق ممهدة للفوز، لم تعد تفصلنا خطوات للوصول إلى قمة أمانينا، ستمتد أيدينا بيسر وسهولة وبدون أي جهد لقطف ثمار أحلامنا.
لاندرك أن للدنيا وجها آخر جاهدت في إخفائه أو تجاهلنا بسذاجتنا وغرورنا وجوده، وجه قبيح مخيف ماكر، لاتعبأ بصدمتنا في اكتشافه ولاتتورع في إكسابه مزيدا من القبح .. لا تعرف التجمل، فلا تدخر وسعا في إرهاقنا وإزعاجنا وإحباطنا وتيئيسنا وسد كل طريق أمل نصل به لحلمنا.
تتعبنا لعبة الحياة شبابا، لكننا مع الزمن وبعد شيب الرأس والروح ندرك عبثية اللعبة .. صحيح أننا لا نبرأ من تبعاتها إلا أن رهاننا على الزمن يزداد، وندرك أن لكل لعبة مهما كانت سخافاتها نهاية، وكل ماعلينا أن نحتفظ بمهارتنا ونتحلى بالصبر لاجتياز كل مراحل اللعبة لنصل للنهاية بأقل الخسائر الممكنة، إن لم يكن بأكبر مكاسب محققة.
مرهقة هي الحياة في لهوها وصدها، في ضحكها وعبوسها، في قسوتها وحنانها، فى صخبها وصمتها، فى إقبالها وإعراضها.. وقليل من يدرك حكمتها ويفك طلاسمها ولا يقع في فتنتها ويتجاهل مكرها وإغوائها ويترفع عن لعبها واستفزازها وخداعها.
وكثير من لا يدرك ذلك إلا بعدما يشعل الشيب رأسه.. نصل لمحطتنا الأخيرة فندرك أن لعبة الدنيا ماهى إلا محنة، وإبتلاء..هي امتحان صعب طويل بطول أعمارنا .. يبدأ بأسئلة سهلة في شبابنا أو هكذا نظن، نجيب عليها برعونة أحيانا وبغرور أحيانا وبعدم اكتراث أحيانا وثقة في النجاح في كل الأحوال، يعمينا الجهل عن رؤية الصواب وكشف الحقيقة.
يمر العمر فيزداد الامتحان صعوبة ويزداد الابتلاء شدة .. تتوالى الأسئلة الصعبة بسرعة أكبر لانكاد ننتهى من أحدها حتى يفاجئنا الآخر، لا وقت لدينا للتفكير فيما إذا كنا نجحنا في اجتيازالإبتلاء أو تعثرنا فيه، تتخبط رؤوسنا تكاد تنفجر من وقع الصدمات، تتوقف قلوبنا عن الخفقان، تتجمد مشاعرنا، تفقد أحاسيسنا القدرة على التعبير، يتساوى الحزن مع الفرح، الألم مع الراحة, والبهجة مع العبوس .. لكن مع الوقت تحيلنا شدة تلك اللطمات لحالة من الهدوء والسكينة والرضا، محظوظ من يصل إليها في مقتبل العمر، وأقل حظا من يصل إليها لاحقا لكن يكفى وصوله لتلك الحقيقة، حتى لو بعد فوات العمر واقتراب وداع الدنيا.
يكفى أن نتصالح مع أنفسنا في أيامنا الأخيرة حتى لو كانت قليلة .. يكفي مايملؤنا من سلام نفسى وزهد ورضا، يكفى قناعتنا أن لعبة الدنيا لم تعد تغوينا، ولم يعد ينطلى علينا مكرها وخداعها، يكفى أننا نكرس كل طاقتنا لمواجهة الابتلاءات بصبر ورباطة جأش ودعاء ويقين أن لكل أزمة نهاية ولكل ابتلاء أجر .. يتفاوت أجرنا باختلاف الصبر، وتتفاوت درجاتنا باختلاف التحمل .. نسعى للامتياز ونخشى الفشل ونعبر على درجاتنا الضعيفة لنجتازها بسرعة ونحسن من تقديراتنا الجيدة بغية الوصول للكمال. نتعثر ونعافر، نخفق وننجح، لكننا في كل الأحوال نظل أكثر وعيا وثباتا ورضا ورفضا لألعاب الدنيا وألا نكون أيضا لعبة لها. لقد هرمنا وبرئنا من براثن الغواية والمكر الخادع والزيف أو هكذا نحاول دوما أن نكون.
---------------------------
بقلم: هالة فؤاد